هذا المبحث يرمي إلى إلقاء الضوء بالإيجاز على ذلك الجو الإسلامي المشبع بعلوم الدين والأدب العربي، في تلك الفترة المليئة بالأحداث التاريخية، و التي نشأ فيها الخليفة الحاج محمد انياس وترعرع. و يجد ر بنا الملاحظة أن هذه الفترة وإن لم تكن بين أيدينا مصادر كافية موثوقة بها تساعدنا على تسليط الضوء على الحياة الثقافية والفكرية التي كانت سائدة فيها ، فإن ذلك لا يمنعنا من أن نكون جازمين بوجود أحداث إسلامية كبيرة في البلاد؛ نظرا لأن الإسلام كان قد تأصل مبكرا في منطقة( سَالُومْ) حيث ولد الخليفة الحاج محمد انياس، وانتشر فيها العلم، والجهاد واستقر أمر المسلمين، الذين تثقفوا بالثقافة الإسلامية وتعمقوا فيها، وكذلك الأمر في مناطق كثيرة في البلاد بصفة عامة.
هذا، ومن يمعن النظر ير أن من أهم الأحداث خلال هذه الفترة اللجوء السياسي للحاج عبد الله انياس " 1846مــــ1922م "إلى غامبيا عدة سنين، نتيجة الضغوط و مناورات السلطات الفرنسية ضدّ ه، حينما انتشرت شائعات مفادها أنه يستعد للقيام بالجهاد في سبيل الله ضدّ السلطات الفرنسية هو وابن المجاهد سَعِيرْمَتِ بَهْ بن مَابَهْ جَخُ بَهْ رحمة الله عليه.
و من ذلك أيضا الإطاحة بالحكم الإسلامي في فوتا طور،( دولة ألمام )التي قامت في الفترة ما بين 1776م ـــ 1881م ، وفي هذه السنة الأخيرة نفسها التي شيع فيها المسلمون الدولة الإسلامية، بعين باكية، وقلوب ضارعة، إلى مقرها الأخير، استقبلت البلاد بطلا آخر، واسع الأفق، بعيد الأثر، عظيم الرسالة، ذا باع طويل في التربية والتعليم ألا وهو الخليفة الحاج محمد نياس.
وهكذا شاء القدر أن يصادف تاريخ ميلاده سقوط الدولة الألمامية. ويبدو أن السنغال في ذلك الوقت كان في طور الانتقال من القرن الثامن عشر إلى القرن التاسع عشر في جميع الجوانب. فمن الناحية السياسية مثلا بدأت تتوسع السيطرة الاستعمارية الفرنسية التي راحت تجتاح تقاليدنا الإسلامية وتقاليدنا الموروثة عن الآباء والأجداد.
ففي هذه الفترة المليئة بالأحداث العظام ، وبالتحديد في 29 يوليو1881م الموافق لعام 1298هـ ظهر يوم الجمعة الثاني من شهر رمضان المبارك ولد محمد بن عبد الله نياس في قرية" سِلك "قرب دُوفَانْ، في منطقة" نِيُورُ دِرِيبْ".
نشأ الخليفة الحاج محمد انياس منغمرا في حب شديد للنبي صلى الله عليه وسلم وكان يستبشر بموافقته له- صلى الله عليه وسلم- في اسمه واسم أبيه واسم أمه، وإلى ذلك يشير قائلا :
لي رتبة منك مع جاه بتسميتي محمّدا سيّد الأكوان في الأزل
أرجو قبولا وجاها عند سيّدنا مع الرّخاء وصفو القلب والأمل
من المشهور أنه لم يكن أحد يتجرأ على أن يقول له إن أمه ليست آمنة ، إلا وناله منه ما يسوؤه. و كان يقول : لا تقدر امرأة أن تكون أمي غير آمنة .
ويمكن القول بأنه اكتسب من الشيوخ اهتماماتهم الكبيرة، ومن الأطفال براءتهم وفطرتهم السليمة، وكان في سن المراهقة جادا في حب النبي يسهر الليالي باكيا لمحبته الشديدة. ففي هذا السياق نفسه يقول الخليفة الحاج محمد انياس :" فإني منذ ناهزت الفطام وترعرعت وصرت غلاما مازلت في اليقظة والمنام أهوى من جعله الله خير الأنام رسول الله خاتم المرسلين الشافع المشفع في الثقلين...وهمت بأودية وشمت بروق الغمام من حبّه وانبثّ في قلبي من بثّ.." .إن الموافقة بين اسمه واسم الرسول صلى الله عليه وسلم لها أثر بالغ في شخصيته، بحيث كان يترجم هذا الحب في حياته اليومية، والدليل على ذلك ما قاله من أوائل أشعاره حيث يتشوق إلى حبيبه صلى الله عليه وسلم قائلا :
يا لله يا ربّ يا منشي الخلائق يا وهّاب يا باسط الأرزاق كــالدّيم
وهــب لنا كرمــا زادا يبلّــغنا ديار حبّك قبل الشّيب والهرم
حــتّى أنـــيخ بمن كانـــت محبّته قبل انفطامي وقبل الدّرك للحلم
من خلال هذه الأبيات ندرك أنه لم تكن طفولته كأية طفولة، ولكنها طفولة تشوبها رجولة، تفتّش عن أسرار الكون، وتسبح في عالم المجهول، وتسأل عن الحقيقة المحمدية، حتى أن أباه كان يحسّ بفارق كبير بينه وبين غيره من الأطفال، والحقيقة أن هذا الفرق ليس إلا إرادة إلهية أعدته لأمر عظيم .
وعليه فالخليفة الحاج محمد انياس من أسرة نبيلة، كان والده الحاج عبد الله انياس من مواليد مدينة "انِيَاسِينْ" بناحية "بَلَغِي في جُلُفْ،" ثمّ غادر من بَلَغِي إلى سالوم بطلب من الإمام مَا بَهْ جَخُ به الذي أصله من فوتا طور،وأعلن الجهاد في سبيل الله كي يوحد السنغال بإشراف الإسلام وخاصة رِيبْ بَادِيبُو . وكان الحاج عبد الله انياس التجاني من كبار علماء زمنه عالما متضلعا ومجاهدا كبيرا.
وأما أمه السيدة آمنة فكانت امرأة صالحة ناسكة قيل بأنها منذ أن جعلها الله تحت يد الحاج عبد الله انياس : لم تزل تهتم برضاه مجتهدة في أوامره، ولم تفعل قط ما يسوؤه أو يغضبه.
وبهذين الأبوين الكريمين تكونت لدى الخليفة الحاج محمد نياس ثقافة إسلامية واسعة، وحياة صوفية صافية.
فهو ابن عبد الله بن محمد بن مَدِمْبَ بن بكر ابن محمد الأمين بن ساتيورو بن صَمْبَ بن الرضى. وكثير من النسابين رفعوا نسب الرضى الجد الأعلى للخليفة الحاج محمد نياس إلى عقبة بن نافع القرشي الصحابي الجليل. وهو أي الرضى عربي أتى إلى بلاد السودان من جهة المشرق من أهل العرب، وتزوج بامرأة من ملوك كجور يقال لها جيل نياس.
هذا، ومما يلفت الانتباه، أن بعض شيوخ البلاد والمؤرخين قد أثبتوا وجود علاقة نسبية بين بعض الأسر الإفريقية وبين العرب؛ فمن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر، الحاج عمر الفوتي 1797 ـــــ 1864م حيث يقول في قصيدته اللامية المشهورة :
بني طور كونوا مثل آبائنا الأول ذوي المجد والتقوى والإحسان والعدل
بني طور توبوا وارجعوا لتراثكم جهــاد عـــدو الله دوما بلا بتل
بني طور سينا فيه كان أصولكم لأجـــل جهاد جئتم فوت بالــذأل
و كذلك قول عثمان دان فوديو : بأن الفولانيين من العرب ويرجع أصولهم النسبية إلى المجاهد المشهور عقبة بن نافع الفهري فاتح أفريقيا .
وكذلك الشاعر الشيخ الحاج إبراهيم خُورِجَا كاه يشير إلى أن قبيلة التكرور تنتسب إلي قبيلة حمير وهي من قبائل العرب وقال :
قل للمحاول علم أنساب الــورى تكرور حميري وليس ببربر
فدليل قولي بارتفاع أنوفهم وبياض أعينهم وحسن المنظر
وفصاحة تعلو فصاحة غيرهم وشجـاعة غلــبت شجاعــــة حيدر
من لم يصدقني على ما قلته كتب الأوائل قبلنا فلينظر
وقد نظم الشيخ الحاج عباس صل ، قصيدة رائية سجل فيها انتساب أسرته إلى عقبة بن نافع قائلا :
" مًايُرُ،غُمْبَ ،غَلاَيْ، مَجَارَ،مختار مِيكَ، مختار،مَيَاسِنْ ،عال لَمْطُور"
أي صَمْبَ أمان نجل القرم علّ بنّي الشـ ـهيد حقا من الأعداء مسحورا فالوالـد القرم هـذا يـا لعـنصره بِرُمْ لبوكر نجلا كان مشهورا وذاك نجل بِرُمْ ثاني السمي له لِبُولُ مَاكَمْ نــدبا كان مــذ كورا لعقبـة البـطل المعهــود نجــدته لنافع نجل عبد القيس منصورا
هذا، بغض النظر عن مدى صحة هذا الانتساب أو عدم صحته، فمما لاشك فيه أنه دلالة قاطعة على العواطف الدينية الجياشة التي تدفعهم إلى إرضاء أشواقهم الشديدة نحو النبي صلى الله عليه وسلم.
و من الواضح أنهم كانوا مخلصين في حب النبي، وحبهم إياه جعل معظمهم يعتقدون بأن العرب هم خير أناس، وقبيلة قريش خير قبيلة؛ لان فيها خير الخلق.
وفي ذلك يستشهد الحاج مالك سي رضي الله عنه، بالبيت التالي قائلا :
فالعرب خير أناس ثم خيرهم قريشهم و هو فيهم خير خيرهم
ومهما يكن فقد نشأ الخليفة الحاج محمد انياس في حجر والديه رضي الله عنهما ذا عفة وديانة ومروءة ، وقرأ علي والده القرآن الكريم حتى حفظه عن ظهر القلب حفظا جيدا، برواية ورش بن نافع، وقد ظهرت فيه النجابة منذ نعومة أظفاره. وفي ذكائه النادر ونبوغه العجيب قيل :"إنه زمن تعلمه للقران ربما وقف في قراءته ثم فكر وقال هذه الجملة ينبغي أن يليها كذا فإذا هي كما ظن" !!
وإن دلّ ذلك على شيء فإنّما يدلّ على أنّه كان يتمتع بقوة حفظه وسرعة خاطره بشكل عجيب، ولو لم نجد من الشواهد التاريخية ما يثبت وجود أناس كانوا فرائد زمانهم مثله لاعتبرنا ما قيل في حقه ضربا من المبالغات؛ فمن وقف على حياة بديع الزمان الأديب العباسي الذي إذا كان أنشد له قصيدة لم يسمعها من قبل، ولو كانت أكثر من خمسين بيتا يحفظها عن ظهر القلب حفظا جيدا. وكان إذا نظر في الأربع أو الخمس الأوراق من كتاب لم يعرفه ولم يره من قبل حفظها عن ظهر قلبه .
الخليفة الحاج محمد نياس كان قد شمر عن ساق الجد والاجتهاد في سبيل الحصول على العلوم الظاهرية و الباطنية حتى بلغ المنى والمراد، وتبحر فيها وتفنن في شتى فنون العلم، وخاصة السيرة النبوية الشريفة وعلوم اللغة العربية، ومما أثر عنه :" أنه لا يدري متى عرف العربية فإنه ما عقل إلا وهو يعرفها"
وعليه لم نعرف من معلمي الخليفة محمد انياس إلا اثنين والده الحاج عبد الله انياس، وحسن سِيسِ والد علي سيس جد الإمام الحسن سيس وسميه المعروف بمدينة" بَايْ" حفيد الشيخ الحاج إبراهيم انياس، قيل إنه قد درسه جزءا من القران الكريم.
و يكاد يتفق الباحثون على أن الذي تولى تربيته وتعليمه هو والده المذكور أعلاه، وقيل إنه كان يظهر غرائب المفتوح عليه والمكاشف.وهو عند سورة النبأ
وخلاصة القول : إن الخليفة الحاج محمد انياس أحد العلماء المصلحين العظام في العصر الحديث، بدأ خطوه نحو التعليم والإصلاح التربوي منذ الصغر، نتيجة البيئة العلمية التي عاش فيها.
ومما لا يخفي على أحد، أن نشأته في حجر هذا الوالد أعانته على أن يتمثل السليقة العربية ولم يكد يبلغ خمس عشرة سنة ، حتى أخذ ينبوع الشعر يسيل على لسانه ، وكان المدح حينئذ يضطرم في موطنه لا بين والده وإخوانه فحسب، بل بين جميع شعراء البلاد ، فكان طبيعيا أن يكون أول غرض ينظم فيه الشاعر ،وسنتحدث عن ذلك في الفصل التالي.
محمد انجما كاه
بعنوان : المدح النبويّ في شعر الخليفة الحاج محمد انياس
جامعة شيخ أنت جوب بدكار / كلية الآداب والعلوم الإنسانية