بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
يا همة الشيخ احضري = لنا بهذا المحضر
ولتعطفي بنظرة = تأتي لنا بالظفر
كلمة مرتجلة في مناسبة ميلاد شيخنا الخليفة الحاج محمد نياس ابن الحاج عبد الله.
كان ميلاد شيخنا وجدنا الخليفة الحاج محمد نياس ابن الحاج عبد الله رضي الله عنهما يوم الجمعة الثاني من رمضان المبارك عام 1298هـ ووافق إن لم أخطئ 29 تموز (يوليو) 1881م.
كان ميلاده المبارك في قرية تسمى بـ (سِيلِكْ)، وهي قريبة من (دُوفَانْ) جنوب (كولخ) في الطريق العام المسدد إلى غامبيا.
ومن بركات محل ميلاده الذي أصبح الآن من مزارع القرية حيث تقلصت القرية عن تلك الجهة فيما بعد، من بركاته أن صاحب المزرعة الحالي (محل مولده) قال إنه دائما يحصل على حصاد كبير من تلك المزرعة ولو جاءت نتيجة الخريف شحيحة أو قليلة.
فقد لا زمته البركة والسعد من ميلاده ولم تفارقه، فما حل موضعا أو مسحت يده شيئا إلا وبورك، وما دعا قط إلا واستجيب له في الحين، حتى في حاجة مستبعد حصولها للغاية، فلما لقن والدي الورد الأحمدي التجانيّ تحت شجرة مانجو في قريتنا قال لي والدي تلك الشجرة أثمرت مرتين في ذلك العام خلاف العادة، وفي زيارته الوحيدة لفُوتَا (1950م) التي ملئها كرامات وبركات، كان والدي رحمه الله كلما لقي بعميد قريتنا آنذاك تفسير مُسَ مَتِ شام من أحفاد تفسير مَسَمْبَ شام يقول له بحال قوي: يا حَمَدْ، جدك في فُوتَا! أهل فوتا في فوز عظيم! في حظ كبير...
ولما نزل على شيخه سيدي الحاج أحمد سكيرج رضي الله عنه في بيته بمدينة الجديدة بالمغرب ، عام 1342 (1924) جيء له في بيته بطلبه الكهربائي بعد مطال، فقال له سيدي سكيرج: إنك لرجل مبارك! وهذا من كراماتك، فمنذ مدة وأنا أطلب أن ينزلوا لي الكهرباء لكن بدون جدوى، واليوم دخلت بيتي فجاؤوا وأنجزوا!.
وكان من كراماته المبكرة أنه لم يرضع طيلة رمضان ذلك نهارا، كما أن من بركاته أيضا أن والده شافه سيد الوجود صلى الله عليه وسلم سابع ميلاده وأخبره بالخبر، وبأنه سماه باسمه العظيم عليه الصلاة والسلام، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم ناولنيه، فناوله إياه، فضمه في صدره الشريف مدة، وقد خلد الخليفة ذلك الحدث الجليل في شعره حين قال:
صافحته بيميني في مسامرة
وضمني ضمة صحت بها عللي
وكان كما ذكر عن والده وهو طفل رضيع لا يسمع مديح النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من المتسولين الذين عادتهم ترديد أناشيد جذابة إلا ولفَظ ثدي أمه، وتنصتَ لمدائحه، وتمايل لها.
والده كما ذكرنا هو الشيخ الحاج عبد الله بن محمد نياس الجُلُفي، وقد غادر جُلُفْ هو ووالده وخاله الشيخ إبراهيم شَامْ كِلِّيلْ وآخرون من رجال تلك المنطقة إلى منطقة سالُمْ المتاخمة لغامبيا، دعما لجهاد الإمام مَبَاجَخُ با ولمملكته، فسكنوها ثم لم يرجعوا إلى جُلُفْ.
ووالدته هي السيدة المباركة آمنة شامْ بنت الشيخ العلامة العارف بالله إبراهيم شَامْ كِلِّيلْ المذكور حفيد الشيخ الرائد مَسَمْبَ بن إبراهيم شام المشهور.
كانت نشأته كلها في منطقة واحدة وهي سالُمْ المذكورة ، وتعلمه كله على يد شيخ واحد وهو والده كما صرح هو بذلك في تدوينه.
حج بيت الله الحرام قبل الثلاثين من عمره ، وزار ضريح شيخه سيدنا الشيخ أحمد التجاني الشريف رضي الله عنه بمدينة فاس بعد وفاة والده بقليل.
إن الخليفة الحاج محمد نياس رضي الله عنه عرف كثيرا بالأدب العربي لا سيما بالشعر الذي أجاده كثيرا ، وأكثر منه أيضا ، فهو بالفعل الرائد للشعر في مدرسة والده العتيقة ، واحتذى به طلاب آخرون لا سيما إخوته.
خلف والده بتنصيب منه في بيته وزايته ومدرسته وتلاميذه ، فكان نعم الخليفة ، حتى قال الناس إنه لم يُفْقد من والده إلا ذاته الترابية، وإنه ورثه كلا وزاد عليه.
ذكر لي والدي الإمام الحاج أحمد تَبَرَ رحمه الله تعالى رحمة واسعة ورضي عنه أنه سمعه يرد على إساءة الأعداء والحساد فيما كانوا يقولون إنه ليس خليفة بل خُلْفَ (غبرة ثمر غُيْ (باوباب) تحت الأكياس والآنية) فقال هو يحمد الله اسمه (الخليفة) سمي به في السماء الرابعة.
كان من أمره كما سمعت من والدي أنه كان إذا مُدح بقصيدة يقول: أشكركم ولكني اتخذت شوطا عريضا وطويلا - لن أستوفيه - في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وشيخنا أحمد التجاني الشريف رضي الله عنه، من يجيد القرض فليجعله في مدحهما مساعدة لي .
قال للناس في فُوتَا في حدث معين إنه يفهم جميع اللغات، بل قال مرة أخرى أغرب من ذلك مما بلغني إلا أنني أردتها مختصرة.
إيه، ذكر لي مرات أستاذي الفرضي العلامة سعادة السفير الحاج محمد جوفْ أن والده الوفي ( الشيخ تفسير جوفْ إمام بَرْنجِي الأسبق وعالمها الأكبر مقدم الشيخ الخليفة سيدي أبي بكر سي) كان كلما كان يعدد مشائخه الذين تتلمذ عليهم، ويثني عليهم بخير إذا وصل إلى أستاذه الخليفة الحاج محمد نياس يأخذه حال قوي ويقول: أما الخليفة محمد آمنة نياس فمفتوح عليه ، وما مثله في تفسير القرآن الكريم والحديث الشريف. وكان يزوره في كولخ سنويا.
وقد ذكر لي الشيخ الإمام إبراهيم غَيْ السيباسوري الكولخي وهو أيضا من تلامذة الخليفة الجليل سيدي بابكر سي ابن الشيخ الحاج مالك رضي الله عنهم أجمعين أنه مرة زار أستاذه الإمام تفسير جوف المذكور ببَرْنجِي فورد ذكر شيخنا المتحدَّث عنه الخليفة الحاج محمد نياس، فسأله عن علمه وما إلى ذلك ، فقال له: هو أعلم أقرانه، لكن إذا رجعت إلى كولخ اطلب كتبه واقرأ فأنت عالم ستعرف بنفسك. قال لي لما رجع وجاء إلى حضرة الشيخ الحاج عبد الله نياس وطلب كتب ولده الخليفة وأكب عليها حينا، ثم إنه بعد ذلك سافر إلى بَرْنجِي لزيارة شيخه المذكور، قال له هل قرأت كتب الشيخ الخليفة كما قلت لك، فقال له: أنت قلت لي إنه أعلم أقرانه، ولكني وجدته أعلمَ حتى من آبائه! فقال له: هو كذلك ، ولكني لم أكن أتجرأ على ذكر سبقه لآبائه.
ولقد ذكر لي الشيخ الحاج عبد الله نيانْ المعمر زاد الله في تعميره أنه أدرك أن شيخه الخليفة مخلص لله تعالى لا يسعى لهوى النفس في شيء لَما ودعه لأداء الحج ، فأوصاه وقال له سمعت أن فلانا في المدينة المنورة نوى مجاورتها بقية حياته، حاول أن تلقاه هناك هو من الصالحين من رجال الوقت. فقال لي الجد الحاج عبد الله نيان: وكنت أعلم أن ذلك الرجل كان من تلامذته ثم تركه وأخذ بالشيخ فلان، ولم يؤثر فيه ذلك شيئا سلبا بل يذكره ويمدحه ويوصي به، فهذا لا يكون إلا من مخلص لله تعالى. نعم ، قريب من هذا أيضا ما ذكر سيدي الوالد رحمه الله أنه سمع من الخليفة يوما وكان الناس تحدثوا عنده عن كثرة إدبار من كانوا مريديه عنه إلى آخرين من الشيوخ فقال : الحمد لله ، إني وجدت من يد سيدي أحمد التجاني الشريف رضي الله عنه كلمة لو كتبتها في أخمصي ومشيت ( ثلاث أو سبع) خطوات لاتبعني كل ما يدب على وجه الأرض، ولكن لا حاجة لي بذلك.
وفي أواخر عمره لما من الله سبحانه وتعالى عليه بتضمين البردة المباركة حصل ببركتها مشاهدة النبي صلى الله عليه وسلم يقظة بذاته الترابية، ومعه سيدتنا أم أيمن، وسيدنا سعد بن... وقد روّى ذلك بقوله في آخر القصيدة:
واليمن أم وذات المصطفى برزت = والسعد ساعد يقظانا وفي الحلم
ورؤية المصطفى فوز ومغتنم = لمن رآه سمت عن كل مغتنم
وكان سابقا ذكر في كتابه (الأدلة المقنعة إلى طرق المنفعة) ما معناه أن رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذاته الترابية هي الغاية للعارفين.
جل كتاباته رضي الله عنه في سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومدحه:
عقدي بمدح الذي من كان يمدحه
ولو بشطر كلام فاز بالأمل
'
وَلْتُعْطِ منكَ رَواجًا في بِضاعتِنا
يا مُسبِلَ الخَيرِ والأمطارِ والنِّعَمِ
بِضاعتِي حَوْكُ مدْحِ المصطفى دُررًا
بأوجزِ اللفظِ والأسلوب والحِكمِ
قد لاكَها عربي الأصل منتسبًا
إلى البطاح بطاح البيت والحَرمِ
'
وإنْ يُنادي المُنادي المادحون لهُ
إلى الحكاية والترتيب في أمَمِ
والربُّ يدعُو وخيرُ الخَلق في ملإ
منَ الصحابة أبغي الحَملَ للعلَمِ
'
إن من يَبتغي سِباقا بشأوي
في مديحِ المختار أيُّ جهولِ
'
وجاريتُ في ميدان مدحكَ سيدي
من البُلغا الشُّمِّ الكرامِ الأوائلِ
'
هاج شوقي دارسات المغاني
فارقتها ناعمات الغواني
قد عفتها رامسات السوافي
والملث الساكب المتداني
قد خلت من خرد ناعمات
لحظها يصطادنا بطعان
صد قلبي عن هواها هوى من
حبه لي ديدن مذ زمان
سيد الكون الحبيب مرامي
من له فضل بدا للعيان
فهو نور الكون والسر فيه
ذو مقام قدره غير دان
مظهر من نور قدس، محلى
بصفات لم ينلهن ثان
فهو باب السر وهو المرجى
وهو فيض دائم الفيضان
كم سقاني من شراب بكأس
من مدام رقرقت بالدنان
كأس سر شَرْبها في سرور
وانبساط يا لهم وتدان
قد أديرت كأسها بيميني
بين قوم من سقاهم سقاني
إن قلبي من لهيب اشتياقي
في ضرام لج في الهيمان
عاش شيخنا الخليفة الحاج محمد نياس بالحساب القمري ثمانين سنة حيث توفي ليلة الاثنين 21 شعبان 1378هـ 03 آذار (مارس 1959م) وهذا السن (80) هو عمر سيدنا القطب المكتوم مولانا الشيخ أحمد بن محمد التجانيّ الحسني رضي الله عنه الذي قد طلبه من بين مطالبه الربانية، وهو كذلك عمر لخلفاء مشاهير بالقطبانية العظمى من أهل طريقته الغراء، مثل سيدي محمد العربي بن السائح، ووارثه سيدي الحاج الحسين الإفراني... رضي الله عنهم أجمعين .
هذا - ولله الحمد والمنة - غيض من فيض ، ونزر من كثر.
ولبعض الفضلاء:
إنّما سادة الورى النجباءُ ونجوم الهدى هم العلماءُ
ينقضي الدهر والمكارم منهم أبد الدهر ما لهنّ انقضاءُ
فهم الدائمون معنًى وإن ما توا فوالله إنّهم أحياءُ
فرحمة الله عليهم ومغفرته ورضوانه وعلى والدينا وعلينا وعلى المسلمين أجمعين آمين.
الـلَّـهُـمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّـدِنَـا مُحَـمَّدٍ، الفَاتِحِ لِـمَـا أُغْلِقَ، وَالخَـاتِمِ لِمَا سَـبَـقَ، نَاصِــرِ الحَقِّ بِالحَقِّ، وَالـهَادِي إِلَى صِرَاطِكَ المُسْتَقِيـمِ، وَعَلَى آلِـهِ حَـقَّ قَـدْرِهِ وَمِـقْدَارِهِ الْعَـظِـيـمِ.
ليلة الجمعة ثاني رمضان 1444هـ
24 /03/2023.
سامكوتا _ كيدغو.